فصل: السنة الأولى من سلطنة الكامل شعبان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة الأولى من سلطنة الكامل شعبان

وهي سنة ست وأربعين وسبعمائة‏.‏

على أن أخاه الملك الصالح إسماعيل حكم منها إلى رابع شهر ربيع الآخر ثم حكم الملك الكامل هذا في باقيها وفي أشهر من سنة سبع كما سيأتي ذكره‏.‏

فيها أعني سنة ست وأربعين توفي السلطان الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون حسب ما تقدم ذكره في ترجمته‏.‏

وفيها أيضًا توفي السلطان الملك الأشرف كجك ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد خلعه من السلطنة بسنين وقد تقدم ذكر سلطنته أيضًا ووفاته في ترجمته‏.‏

وتوفي الأمير سيف الدين طقزدمر بن عبد الله الحموي الناصري الساقي بالقاهرة في مستهل جمادى الآخرة‏.‏

وكان أصله من مماليك الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل الأيوبي صاحب حماة ثم انتقل إلى ملك الملك الناصر محمد بن قلاوون وحظي عنده وجعله ساقيًا ثم رقاه حتى صار أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية ثم جعله أمير مجلس وزوجه بإحدى بناته وصار من عظماء أمرائه إلى أن مات‏.‏

ولما تسلطن ابنه الملك المنصور أبو بكر استقر طقزدمر هذا نائب السلطنة بديار مصر ووقع له أمور حكيناها في تراجم السلاطين من بني الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى أن أخرج إلى نيابة حماة‏.‏

ثم نقل إلى نيابة حلب ثم إلى نيابة الشام ثم طلب إلى القاهرة في سلطنة الملك الكامل هذا فحضر إليها مريضًا في محفة ومات بعد أيام حسب ما تقدم‏.‏

وكان من أجل الأمراء وأحسنهم سيرة‏.‏

كان عاقلًا دينًا سيوسًا عارفًا‏.‏

وهو صاحب الخانقاه بالقرافة والقنطرة خارج القاهرة على الخليج وغير ذلك مما هو مشهور به‏.‏

وتوفي القاضي بدر الدين محمد ابن القاضي محيي الدين يحيى ابن فضل الله العمري الدمشقي كاتب سر دمشق في سادس عشرين شهر رجب بدمشق‏.‏

وكان كاتبًا فاضلًا من بيت فضل ورياسة وقد تقدم ذكر جماعة من آبائه وأقاربه ويأتي ذكر جماعة أخر من أقاربه في محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

وتوفي الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله الأحمدي المنصوري أمير جاندار في يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم وهو في عشر الثمانين‏.‏

وكان أصله من مماليك الملك المنصور قلاوون وأحد أعيان أمراء الديار المصرية‏.‏

وهو الذي قوى عزم قوصون على سلطنة الملك المنصور أبي بكر‏.‏

وكان جاركسي الجنس تنقل إلى أن صار من أعيان الأمراء بمصر ثم ولي نيابة صفد وطرابلس ثم قدم القاهرة وتولى أمير جاندار‏.‏

وكان كريمًا شجاعًا دينًا قوي النفس لم يركب قط إلا فحلًا ولم يركب حجرة ولا إكديشًا في عمره‏.‏

وكان له ثروة كبيرة وطالت أيامه في السعادة وخلف أملاكًا كثيرة ذهب غالبها جماعة من أوباش ذريته بالاستبدال والبيع إلى يومنا هذا‏.‏

وتوفي الأمير بدر الدين جنكلي ابن محمد بن البابا بن جنكلي بن خليل بن عبد الله المعروف بابن البابا العجلي أتابك العساكر بالديار المصرية في عصر يوم الإثنين سابع عشر ذي الحجة‏.‏

وكان أصله من بلاد الروم طلبه الملك الأشرف خليل بن قلاوون وكتب له منشورًا بالإقطاع الذي عينه إليه فلم يتفق حضوره إلا في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة أربع وسبعمائة فأمره وأكرمه ولا زال يرقيه حتى صار يجلس ثاني آقوش نائب الكرك‏.‏

ثم بعد آقوش جلس جنكلي هذا رأس الميمنة‏.‏

قال الشيخ صلاح الدين‏:‏ وهو من الحشمة والدين والوقار وعفة الفرج في المحل الأقصى ولم يزل معظمًا من حين ورد إلى أن مات‏.‏

وكان ركنًا من أركان المسلمين ينفع العلماء والصلحاء والفقراء بماله وجاهه وكان يتفقه ويحفظ ربع العبادات‏.‏

ويقال‏:‏ إن نسبه يتصل بإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ وقلت فيه ولم أكتب به إليه‏:‏ لا تنس لي يا قاتلي في الهوى حشاشة من حرقي تنسلي لا ترس لي ألقى به في الهوى سهام عينيك متى ترسل لا تخت لي يشرف قدري به إلا إذا ما كنت بي تختلي لا جنك لي تضرب أوتاره إلا ثنا يملى على جنكلي وتوفي رميثة واسمه منجد بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتاعة بن أبي غرير إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله المحض بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب الحسني المكي أمير مكة بها في يوم الجمعة ثامن ذي القعدة‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام فخر الدين أحمد بن الحسن الجاربردي شارح ‏"‏ البيضاوي ‏"‏‏.‏

وتوفي الشيخ الإمام العلامة تاج الدين أبو الحسن على بن عبد الله ابن أبي الحسن ابن أبي بكر الأردبيلي الشافعي مدرس مدرسة الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري بالقاهرة‏.‏

كان فقيهًا عالمًا بارعًا أفتى ودرس سنين‏.‏

وتوفي الشيخ المقرئ تقي الدين محمد بن محمد بن علي بن همام بن راجي الشافعي إمام جامع الصالح خارج باب زويلة ومصنف كتاب سلاح المؤمن‏.‏

رحمه الله‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم أربع أذرع وست عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ثماني عشرة ذراعًا وخمس عشرة إصبعًا‏.‏

سلطنة الملك المظفر حاجي السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي المعروف بأمير حاج ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون وهو السلطان الثامن عشر من ملوك الترك بالديار المصرية والسادس من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏

جلس على سرير الملك بعد خلع أخيه الملك الكامل شعبان والقبض عليه في يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين وسبعمائة‏.‏

وكان سجنه أخوه الملك الكامل شعبان كما تقدم ذكره‏.‏

فلما آنهزم الملك الكامل من الأمراء بقبة النصر ساق في أربعة مماليك إلى باب السر من القلعة فوجده مغلقًا والمماليك بأعلاه فتلطف بهم حتى فتحوه له ودخل إلى القلعة لقتل أخويه حاجي هذا ومعه حسين لأنهما كانا حبسا معًا فلم يفتح له الخدام الباب فمضى إلى أمه فاختفى عندها‏.‏

وصعد الأمراء في أثره إلى القلعة بعد أن قبضوا على الأمير أرغون العلائي وعلى الطواشي جوهر السحرتي اللالا وأسندمر الكاملي وقطلوبغا الكركي وجماعة أخر ودخل بزلار وصمغار راكبين إلى باب الستارة وطلبا أمير حاج المذكور فأدخلهما الخدام إلى الدهيشة حتى أخرجوه وأخاه من سجنهما وخاطبا أمير حاج في الوقت بالملك المظفر‏.‏

ثم دخل إليه الأمير أرغون شاه وقبل له الأرض وقال له‏:‏ ‏"‏ بسم الله اخرج أنت سلطاننا ‏"‏ وسار به وبأخيه حسين إلى الرحبة وأجلسوه على باب الستارة‏.‏

ثم طلب شعبان حتى وجد بين الأزيار وحبسوه حيث كان أخواه‏.‏

وطلبوا الخليفة والقضاة وخلعوا على حاجي الخلعة الخليفتي وركب من باب الستارة بأبهة السلطنة وشعار الملك إلى الإيوان وجلس على تخت الملك‏.‏

وحمل المماليك أخاه أمير حسين على أكتافهم إلى الإيوان‏.‏

ولقب بالملك المظفر وقبل الأمراء الأرض بين يديه وحلف لهم أولًا أنه لا يؤذي أحدًا منهم ثم حلفوا له على طاعته‏.‏

وركب الأمير بيغرا البريد وخرج إلى الشام ليبشر الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام ويحلفه ويحلف أيضًا أمراء الشام للملك المظفر‏.‏

ثم كتب إلى ولاة الأعمال بإعفاء النواحي من المغارم ورماية الشعير والبرسيم‏.‏

ثم حمل الأمير أرغون العلائي إلى الإسكندرية‏.‏

وفي يوم الأربعاء ثالثه قتل الملك الكامل شعبان وقبض على الشيخ في الدوادار وعلى عشرة من الخدام الكاملية وسلموا إلى شاد الدواوين‏.‏

وسلم أيضًا جوهر السحرتي وقطلوبغا الكركي وألزموا بحمل الأموال التي أخذوها من الناس فعذبوا بأنواع العذاب ووقعت الحوطة على موجودهم‏.‏

ثم قبض على الأمير تمر الموساوي وأخرج إلى الشام‏.‏

وأمر بأم الملك الكامل وزوجاته فأنزلن من القلعة إلى القاهرة‏.‏

وعرضت جواري دار السلطان فبلغت عدتهن خمسمائة جارية ففرقن على الأمراء‏.‏

وأحيط بموجود حظية الملك الكامل التي كانت أولًا حظية أخيه الملك الصالح إسماعيل المدعوة اتفاق وأنزلت من القلعة‏.‏

وكانت جارية سوداء حالكة السواد اشترتها ضامنة المغاني بدون الأربعمائة درهم من ضامنة المغاني بمدينة بلبيس وعلمتها الضرب بالعود على الأستاذ عبد علي العواد فمهرت فيه‏.‏

وكانت حسنة الصوت جيدة الغناء فقدمتها لبيت السلطان فاشتهرت فيه حتى شغف بها الملك الصالح إسماعيل فإنه كان يهوى الجواري السودان - وتزوج بها‏.‏

ثم لما تسلطن أخوه الملك الكامل شعبان باتت عنده من ليلته لما كان في نفسه منها أيام أخيه‏.‏

ونالت عندهما من الحظ والسعادة ما لا عرف في زمانها لامرأة غيرها حتى إن الكامل عمل لها دائر بيت طوله آثنتان وأربعون ذراعًا وعرضه ست أذرع دخل فيه خمسة وتسعون ألف دينار مصرية وذلك خارج عن البشخاناه والمخاد والمساند‏.‏

وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصعة بالجواهر وستة عشر مقعد زركش وثمانون مقنعة فيها ما قيمته عشرون ألف درهم وأشياء غير ذلك استولوا على الجميع‏.‏

ثم آسترجع السلطان جميع الأملاك التي أخذتها حريم الكامل لأربابها‏.‏

ثم نودي بالقاهرة ومصر برفع الظلامات ومنع أرباب الملاعيب جميعهم‏.‏

وخلع السلطان على علم الدين عبد الله بن زنبور بآنتقاله من وظيفة نظر الدولة إلى نظر الخاص عوضًا عن فخر الدين بن السعيد‏.‏

وفيه قبض على ابن السعيد وفيه خلع على موفق الدين عبد الله بن إبراهيم بآستقراره ناظر الدولة عوضًا عن ابن زنبور‏.‏

وخلع على سعد الدين حربا وآستقر في استيفاء الدولة عوضًا عن ابن الريشة‏.‏

ثم قدم الأمير بيغرا من دمشق بعد أن لقي يلبغا اليحياوي نائب الشام وقد برز إلى ظاهر دمشق يريد السير إلى مصر بالعساكر لقتال الملك الكامل شعبان‏.‏

فلما بلغه ما وقع سر اليحياوي سرورًا عظيمًا زائدًا بزوال دولة الملك الكامل وإقامة أخيه المظفر حاجي في الملك‏.‏

وعاد يلبغا إلى دمشق وحلف للملك المظفر وحلف الأمراء على العادة وأقام له الخطبة بدمشق وضرب السكة باسمه وسير إلى السلطان دنانير ودراهم منها وكتب يهنئ السلطان بجلوسه على تخت الملك‏.‏

وشكا الأمير يلبغا اليحياوي من نائب حلب ونائب غزة ونائب قلعة دمشق مغلطاي المرتيني ومن نائب قلعة صفد قرمجي من أجل أنهم لم يوافقوه على خروجه عن طاعة الملك الكامل شعبان‏.‏

فرسم السلطان بعزل الأمير طقتمر الأحمدي نائب حلب‏.‏

وقدومه إلى مصر وكتب بآستقرار الأمير بيدمر البدري نائب طرابلس عوضه في نيابة حلب واستقر الأمير أسندمر العمري نائب حماة في نيابة طرابلس - وهذا أول نائب آنتقل من حماة إلى طرابلس وكانت قديمًا حماة أكبر من طرابلس فلما اتسع أعمالها صارت أكبر من حماة‏.‏

ثم كتب السلطان بالقبض على الأمير مغلطاي المرتيني نائب قلعة دمشق وعلى قرمجي نائب قلعة صفد‏.‏

ثم كتب بعزل نائب غزة‏.‏

وكان الأمير يلبغا اليحياوي لما عاد إلى دمشق بغير قتال عمر - موضع كانت خيمته عند مسجد القدم - قبة سماها قبة النصر التي تعرف الآن بقبة يلبغا‏.‏

ثم خلع السلطان على الطواشي عنبر السحرتي باستقراره مقدم المماليك السلطانية كما كان أولًا في دولة الملك الصالح عوضًا عن محسن الشهابي‏.‏

وخلع على مختص الرسولي باستقراره زمام دار وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه‏.‏

ثم أنعم السلطان بإقطاع الأمير أرغون العلائي على الأمير أرغون شاه‏.‏

وأنعم على كل من أصلم وأرقطاي بزيادة ثم في يوم الإثنين خامس عشر جمادى الآخرة أمر السلطان ثمانية عشر أميرًا ونزلوا إلى قبة المنصورية ولبسوا الخلع وشقوا القاهرة حتى طلعوا إلى القلعة فكان لهم بالقاهرة يوم مشهود‏.‏

ثم في يوم الخميس ثالث شهر رجب خلع السلطان على الأمير أرقطاي باستقراره نائب السلطنة بديار مصر بآتفاق الأمراء على ذلك بعد ما آمتنع من ذلك تمنعًا زائدًا حتى قام الحجازي بنفسه وأخذ السيف وأخذ أرغون شاه الخلعة ودارت الأمراء حوله وألبسوه الخلعة على كره منه‏.‏

فخرج في موكب عظيم حتى جلس في شباك دار النيابة وحكم بين الناس وأنعم السلطان عليه - بزيادة على إقطاعه - ناحيتي المطرية والخصوص لأجل سماط النيابة‏.‏

ثم ركب السلطان بعد ذلك ونزل إلى سرياقوس على العادة كل سنة‏.‏

وخلع على الأمير تمربغا العقيلي باستقراره في نيابة الكرك عوضًا عن الأمير قبلاي‏.‏

ثم عاد السلطان إلى القلعة‏.‏

وبعد عوده في أول شهر رمضان مرض السلطان عدة أيام‏.‏

ثم في يوم الإثنين خامس عشرين شهر رمضان خرج الأمير أرغون شاه الأستادار على البريد إلى نيابة صفد‏.‏

وسبب ذلك تكبره على السلطان وتعاظمه عليه وتحكمه في الدولة ومعارضته السلطان فيما يرسم به وفحشه في مخاطبة السلطان والأمراء حتى كرهته النفوس‏.‏

وعزم السلطان على مسكه فتلطف به النائب أرقطاي حتى تركه وخلع عليه بآستقراره في نيابة صفد وأخرجه وقته خشية من فتنة يثيرها فإنه كان قد آتفق مع عدة من المماليك على المخامرة‏.‏

وأنعم السلطان بإقطاعه على الأمير ملكتمر الحجازي وأعطي ناحية بوتيج زيادة عليه‏.‏

ثم في يوم الأحد أول شوال تزوج السلطان ببنت الأمير تنكز زوجة أخيه الكامل‏.‏

وفي آخر شوال طلبت اتفاق العوادة إلى القلعة فطلعت بجواريها مع الخدام وتزوجها السلطان خفية وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجري شاهد الخزانة‏.‏

وبنى عليها السلطان من ليلته بعد ما جليت عليه وفرش تحت رجليها ستون شقة أطلس ونثر عليها الذهب‏.‏

ثم ضربت بعودها وغنت فأنعم السلطان عليها بأربعة فصوص وست لؤلؤات ثمنها أربعة آلاف دينار‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ثالث سلطان من أولاد ابن قلاوون تزوج بهذه الجارية السوداء وحظيت عنده فهذا من الغرائب‏.‏

على أنها كانت سوداء حالكة لا مولدة فإن كان من أجل ضربها بالعود وغنائها فيمكن من تكون أعلى منها رتبة في ذلك وتكون بارعة الجمال بالنسبة إلى هذه‏.‏

فسبحان المسخر‏.‏

وفي ثامن شوال أنعم السلطان على الأمير طنيرق مملوك أخيه يوسف بتقدمة ألف بالديار المصرية دفعة واحدة نقله من الجندية إلى التقدمة لجمال صورته وكثر كلام المماليك بسبب ذلك‏.‏

ثم رسم السلطان بإعادة ما كان أخرج عن اتفاق العوادة من خدامها وجواريها وغير ذلك من الرواتب‏.‏

وطلب السلطان عبد علي العواد المغني معلم اتفاق إلى القلعة وغنى للسلطان فأنعم عليه بإقطاع في الحلقة زيادة على ما كان بيده وأعطاه مائتي دينار وكاملية حرير بفرو سمور‏.‏

وانهمك أيضًا الملك المظفر في اللذات وشغف باتفاق حتى شغلته عن غيرها وملكت قلبه وأفرط في حبها‏.‏

فشق ذلك على الأمراء والمماليك وأكثروا من الكلام حتى بلغ السلطان وعزم على مسك جماعة منهم فما زال به النائب حتى رجع عن ذلك‏.‏

ثم خلع السلطان على قطليجا الحموي واستقر في نيابة حماة عوضًا عن طيبغا المجدي‏.‏

وخلع أيضًا على أيتمش عبد الغني واستقر في نيابة غزة وخرجا من وقتهما على البريد‏.‏

وكتب بإحضار المجدي فقدم بعد ذلك إلى القاهرة وخلع عليه بآستقراره أستادارًا عوضًا عن أرغون شاه المنتقل إلى نيابة صفد‏.‏

وفي يوم الثلاثاء أول محرم سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ركب السلطان في أمرائه الخاصكية ونزل إلى الميدان ولعب بالكرة فغلب الأمير ملكتمر الحجازي في الكرة فلزم الحجازي يعمل وليمة فعملها في سرياقوس ذبح فيها خمسمائة رأس من الغنم وعشرة أفراس وعمل أحواضًا مملوءة بالسكر المذاب وجمع سائر أرباب الملاهي‏.‏

وحضرها السلطان والأمراء فكان يومًا مشهودًا‏.‏

ثم ركب السلطان وعاد وبعد عوده قدم كتاب الأمير أسندمر نائب طرابلس يسأل الإعفاء فأعفي‏.‏

وخلع على الأمير منكلي بغا أمير جاندار وآستقر في نيابة طرابلس‏.‏

وفي هذا الشهر شكا الناس للسلطان من بعد الماء عن بر مصر والقاهرة حتى غلت روايا الماء‏.‏

فرسم السلطان بنزول المهندسين لكشف ذلك فكتب - تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة وعشرين ألف درهم جبيت من أرباب الأملاك المطلة على النيل حسابًا عن كل ذراع خمسة عشر درهمًا فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع‏.‏

وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين يوسف ابن أبي بكر محمد الشهير بابن خطيب بيت الآبار‏.‏

وفي هذه الأيام توقفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدام والعجائز والجواري وأخذهم الرزق بأرض بهتيم من الضواحي وبأراضي الجيزة وغيرها بحيث إنه أخذ مقبل الرومي عشرة آلاف فدان‏.‏

وفي هذه الأيام رسم السلطان للطواشي مقبل الرومي أن يخرج اتفاق العوادة وسلمى والكركية حظايا السلطان من القلعة بما عليهن من الثياب من غير أن يحملن شيئًا من الجوهر والزركش وأن تقلع عصبة إتفاق عن رأسها ويدعها عنده‏.‏

وكانت هذه العصبة قد آشتهرت عند الأمراء وشنعت قالتها فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك الإخوة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاوون‏:‏ الملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان والملك المظفر حاجي هذا وتنافسوا فيها وآعتنوا بجواهرها حتى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصرية‏.‏

وسبب إخراج اتفاق وهؤلاء من الدور السلطانية أن الأمراء الخاصكية‏:‏ قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهما إنكار الأمراء الكبار والمماليك السلطانية شدة شغف السلطان بالنسوة الثلاث المذكورات وآنهماكه على اللهو بهن وآنقطاعه إليهن بقاعة الدهيشة عن الأمراء وإتلافه الأموال العظيمة في العطاء لهن ولأمثالهن وإعراضه عن تدبير الملك‏.‏

فعرفا السلطان إنكار الأمراء وخوفوه عاقبة ذلك فتلطف بهم وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء‏.‏

وأخرجهن السلطان وفي نفسه حزازات لفراقهن تمنعه من الهدوء والصبر عنهن فأحب أن يتعوض عنهن بما يلهيه ويسليه فاختار صنف الحمام ونشأ حضيرًا على الدهيشة ركبه على صواري وأخشاب عالية وملأه بأنواع الحمام فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعة آلاف درهم وبينا السلطان في ذلك قدم جماعة من أعيان الحلبيين وشكوا من الأمير بيدمر البدري نائب حلب فعزله السلطان بأرغون شاه نائب صفد ورسم ألا يكون لنائب الشام عليه حكم وأن تكون مكاتباته للسلطان وحمل إليه التقليد الأمير طنيرق‏.‏

ثم ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس ومن كل طبلخاناه فرسان ومن كل أمير عشرة فرس واحد وكشف عن البلاد المرصدة للبريد فوجد ثلاث بلاد منها وقف الملك الصالح إسماعيل وقف بعضها وأخرج باقيها إقطاعات‏.‏

فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلدًا تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم وثلاثة آلاف إردب غلة وجعلها مرصدة لمراكز البريد‏.‏

واستمر خاطر السلطان موغرًا على الجماعة من الأمراء بسبب اتفاق وغيرها إلى أن كان يوم الأحد تاسع عشر شهر ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كانت الفتنة العظيمة التي قتل فيها ملكتمر الحجازي وآق سنقر وأمسك بزلار وصمغار وأيتمش عبد الغني وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج اتفاق وغيرها وتشاغل بلعب الحمام صار يحضر إلى الدهيشة الأوباش ويلعب بالعصا لعب صباح ويحضر الشيخ علي بن الكسيح مع حظاياه يسخر له وينقل إليه أخبار الناس‏.‏

فشق ذلك على الأمراء وحدثوا ألجيبغا وطنيرق - وكانا عمدة السلطان وخاصكيته بأن الحال قد فسد‏.‏

فعرفا السلطان ذلك فاشتد حنقه وأطلق لسانه وقام إلى السطح وذبح الحمام بيده بحضرتهما وقال لهما‏:‏ ‏"‏ والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور ‏"‏ وأغلق باب الدهيشة وأقام غضبان يومه وليلته‏.‏

وكان الأمير غرلو قد تمكن من السلطان فأعلمه السلطان بما وقع فنال غرلو من الأمراء وهون أمرهم عليه وجسره على الفتك بهم والقبض على آق سنقر‏.‏

فأخذ السلطان في تدبير ما يفعله وقرر ذلك مع غرلو‏.‏

ثم بعث طنيرق في يوم الأربعاء خامس عشر شهر ربيع الآخر إلى النائب يعرفه أن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغني قد آتفقوا على عمل فتنة ‏"‏ وعزمي أن أقبض عليهم قبل ذلك ‏"‏ فوعده النائب برد الجواب غدًا على السلطان في الخدمة فلما اجتمع النائب بالسلطان أشار عليه النائب بالتثبت في أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم‏.‏

ثم أصبح فعرفه السلطان في يوم الجمعة بأنه صح عنده ما قيل بإخبار بيبغا أرس أنهم تحالفوا على قتله فأشار عليه النائب أن يجمع بينهم وبين بيبغا أرس حتى يحاققهم بحضرة الأمراء يوم الأحد‏.‏

وكان الأمر على خلاف هذا فإن السلطان كان اتفق مع غرلو وعنبر السحرتي مقدم المماليك على مسك آق سنقر وملكتمر الحجازي في يوم الأحد‏.‏

فلما كان يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر المذكور حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة على العادة بعد العصر ومد السماط وإذا بالقصر قد ملئ بالسيوف المسللة من خلف آق سنقر والحجازي وأحيط بهما وبقرابغا وأخذوا إلى قاعة هناك‏.‏

فضرب ملكتمر الحجازي بالسيوف وقطع هو وآق سنقر قطعًا‏.‏

وهرب صمغار وأيتمش عبد الغني فركب صمغار فرسه من باب القلعة وفر إلى القاهرة واختفى أيتمش عند زوجته‏.‏

وخرجت الخيل وراء صمغار حتى أدركوه خارج القاهرة وأخذ أيتمش من داره فارتجت القاهرة وغلقت الأسواق وأبواب القلعة‏.‏

وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب أرقطاي والوزير نجم الدين محمود بن شروين قريب المغرب وطلبا الوالي ونودي بالقاهرة فاشتهر ما جرى بين الناس وخاف كل أحد من الأمراء على نفسه‏.‏

ثم رسم السلطان بالقبض على مرزة علي وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه وعلى أولاد أيدغمش وأولاد قماري‏.‏

وأخرجوا الجميع إلى الإسكندرية هم وبزلار وأيتمش وصمغار لأنهم كانوا من ألزام الحجازي ومعاشريه فسجنوا بها‏.‏

وأخرج آق سنقر وملكتمر الحجازي في ليلة الإثنين العشرين من شهر ربيع الآخر على جنويات فدفنا بالقرافة‏.‏

وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس في دست عظيم ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وعلى أموالهم وطلع بجميع خيولهم إلى الإسطبل السلطاني‏.‏

وضرب غرلو عبد العزيز الجوهري صاحب آق سنقر وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع وأخذ منهما مالًا جزيلًا فخلع السلطان على الأمير غرلو قباء من ملابسه بطرز زركش عريض وأركبه فرسًا من خاص خيل الحجازي بسرج ذهب وكنبوش زركش‏.‏

ثم خلا به بأخذ رأيه فيما يفعل فأشار عليه بأن يكتب إلى نواب الشام بما جرى ويعد لهم ذنوبًا كثيرة على الأمراء الذين قبض عليهم‏.‏

فكتب إلى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام على يد الأمير آق سنقر المظفري أمير جاندار فلما بلغ يلبغا الخبر كتب الجواب يستصوب رأي السلطان في ما فعله في الظاهر وهو في الباطن غير ذلك‏.‏

وعظم عليه قتل الحجازي وآق سنقر إلى الغاية‏.‏

ثم جمع يلبغا أمراء دمشق بعد يومين بدار السعادة وأعلمهم الخبر‏.‏

وكتب إلى النواب بذلك وبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحماة وحلب وبعث الأمير طيبغا القاسمي إلى طرابلس‏.‏

ثم آنتقل في يوم الجمعة مستهل جمادى الأولى إلى القصر بالميدان فنزل به ونزل ألزامه حوله بالميدان وشرع في الاستعداد للخروج عن طاعة الملك المظفر هذا‏.‏

وأما السلطان الملك المظفر فإنه أخذ بعد ذلك يستميل المماليك السلطانية بتفرقة المال فيهم وأمر منهم جماعة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغني وأصبح غرلو هو المشار إليه في المملكة فعظمت نفسه إلى الغاية‏.‏

ثم أخرج السلطان ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب وأنعم بتقدمته على الأمير طاز‏.‏

وصار السلطان يتخوف من النواب بالبلاد الشامية إلى أن حضرت أجوبتهم بتصويب ما فعله فلم يطمئن بذلك‏.‏

ورسم بخروج تجريدة إلى البلاد الشامية فرسم في عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء من المقدمين بالديار المصرية وهم الأمير طيبغا المجدي وبلك الجمدار والوزير نجم الدين محمود بن شروين وطنغرا وأيتمش الناصري الحاجب وكوكاي والزراق ومعهم مضافوهم من الأجناد وطلب الأجناد من النواحي وكان وقت إدراك المغل فصعب ذلك على الأمراء وآرتجت القاهرة بأسرها لطلب السلاح وآلات السفر‏.‏

ثم كتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطفات على أيدي النجابة بالتيقظ بحركات الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام‏.‏

ثم أشار النائب على السلطان بطلب يلبغا ليكون بمصر نائبًا أو رأس مشورة فإن أجاب وإلا أعلم بأنه قد عزل عن نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب‏.‏

فكتب السلطان في الحال يطلبه على يد أراي أمير آخور وعند سفر أراي قدمت كتب نائب طرابلس ونائب حماة ونائب صفد على السلطان بأن يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتله الأمراء وبعثوا بكتبه إليه‏.‏

فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا وأعلمه أنه ولاه نيابة الشام عوضه فقام أرغون شاه في ذلك أتم قيام وأظهر ليلبغا أنه معه‏.‏

ولما وصل إلى يلبغا أراي أمير آخور في يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى ودعاه إلى مصر ليكون رأس أمراء المشورة وأن نيابة الشام أنعم بها السلطان على الأمير أرغون شاه نائب حلب ظن يلبغا أن استدعاءه حقيقة وقرأ كتاب السلطان فأجاب بالسمع والطاعة وأنه إذا وصل أرغون شاه إلى دمشق توجه هو إلى مصر وكتب الجواب بذلك وأعاده سريعًا‏.‏

فتحللت عند ذلك عزائم أمراء دمشق وغيرها عن يلبغا وتجهز يلبغا وخرج إلى الكسوة ظاهر دمشق في خامس عشره‏.‏

وكانت ملطفات السلطان قد وردت إلى أمراء دمشق بإمساكه فركبوا على حين غفلة وقصدوه ففر منهم بمماليكه وأهله وهم في أثره إلى خلف ضمير‏.‏

ثم سار في البرية يريد أولاد تمرداش ببلاد الشرق حتى نزل على حماة بعد أربعة أيام وخمس ليال فركب الأمير قطليجا نائب حماة بعسكره فتلقاه ودخل به إلى المدينة وقبض عليه وعلى من كان معه من الأمراء وهم الأمير قلاوون والأمير سيفة والأمير محمد بك بن جمق وأعيان مماليكه وكتب للسلطان بذلك فقدم الخبر بذلك على السلطان في جمادى الأولى أيضًا فسر سرورًا زائدًا ورسم في الوقت بإبطال التجريدة‏.‏

ثم كتب بحمل يلبغا اليحياوي المذكور إلى مصر‏.‏

ثم بدا للسلطان غير ذلك وهو أنه أخرج الأمير منجك اليوسفي السلاح دار بقتله فسار منجك حتى لقي آقجبا الحموي ومعه يلبغا اليحياوي وأبوه بقاقون‏.‏

فنزل منجك بقاقون وصعد بيلبغا اليحياوي إلى قلعة قاقون وقتله بها في يوم الجمعة عشرين جمادى الأولى وحز رأسه وحمله إلى السلطان‏.‏

قال الشيخ صلاح الدين الصفدي‏:‏ ‏"‏ وكان يلبغا حسن الوجه مليح الثغر أبيض اللون طويل القامة من أحسن الأشكال قل أن ترى العيون مثله‏.‏

كان ساقيًا وكانت الإنعامات ‏.‏

التي تصل إليه من السلطان لم يفرح بها أحد قبله‏.‏

كان يطلق له الخيل بسروجها وعددها وآلاتها الزركش والذهب المصوغ خمسة عشر فرسًا والأكاديش ما بين مائتي رأس فينعم بها عليه وتجهز إليه الخلع والحوائص وغير ذلك من التشاريف التي يرسم له بها خارجة عن الحد‏.‏

وبنى له الإسطبل الذي في سوق الخيل تجاه القلعة ‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ والإسطبل المذكور كان مكان مدرسة السلطان حسن الآن اشتراه السلطان حسن وهدمه وبنى مكان مدرسته المعروفة به‏.‏

وقد سقنا ترجمته أي يلبغا اليحياوي بأوسع من هذا في تاريخنا ‏"‏ المنهل الصافي ‏"‏ إذ هو كتاب تراجم‏.‏

انتهى‏.‏

وفي يوم الأحد خامس عشرين جمادى الأولى المذكور أخرج السلطان الوزير نجم الدين محمودًا والأمير بيدمر البدري نائب حلب كان والأمير طغيتمر النجمي الدوادار إلى الشام وسببه أن الأمير شجاع الدين غرلو لما كان شاد الدواوين قبل تاريخه حقد على الوزير نجم الدين المذكور وعلى طغيتمر الدوادار فحسن للسلطان أخذ أموالهما‏.‏

فقال السلطان للنائب أرقطاي عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا فأشار عليه النائب بإبعادهم وأن يكون الوزير نجم الدين نائب غزة وبيدمر نائب حمص وطغيتمر نائب طرابلس فأخرجهم السلطان على البريد فلم يعجب غرلو ذلك وأكثر عند السلطان من الوقيعة في الأمير أرقطاي النائب حتى غير السلطان عليه وما زال به حتى بعث السلطان بأرغون الإسماعيلي إلى نائب غزة بقتلهم‏.‏

فدخل أرغون معهم إلى غزة بعد العصر وعرف النائب ما جاء بسببه فقبض عليهم نائب غزة وقتلهم في ليلته‏.‏

وعاد أرغون وعرف السلطان الخبر فتغير قلب الأمراء ونفر خواطرهم في الباطن من السلطان وميله إلى غرلو‏.‏

وتمكن غرلو من السلطان وأخذ أموال من قتل وتزايد أمره وآشتدت وطأته وكثر إنعام السلطان عليه حتى إنه لم يكن يوم إلا وينعم عليه فيه بشيء‏.‏

ثم أخذ غرلو في العمل على علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص وعلى القاضي علاء الدين علي بن فضل الله العمري كاتب السر وصار يحسن للسلطان القبض عليهما وأخذ أموالهما فتلطف النائب بالسلطان في أمرهما حتى كف عنهما‏.‏

فلم يبق بعد ذلك أحد من أهل الدولة حتى خاف من غرلو وصار يصانعه بالمال حتى يسترضيه‏.‏

ثم حسن غرلو للسلطان قتل الأمراء المحبوسين بالإسكندرية فتوجه الطواشي مقبل الرومي بقتلهم فقتل الأمير أرغون العلائي وقرابغا القاسمي وتمر الموساوي واستمر السلطان على الانهماك في لهوه فصار يلعب في الميدان تحت القلعة بالكرة في يومي الأحد والثلاثاء ويركب إلى الميدان الذي على النيل في يوم السبت‏.‏

فلما كان آخر ركوبه إلى الميدان رسم السلطان بركوب الأمراء المقدمين بمضافيهم ووقوفهم صفين من الصليبة إلى فوق القلعة ليرى السلطان عسكره‏.‏

فضاق الموضع فوقف كل مقدم بخمسة من مضافيه‏.‏

وجمعت أرباب الملاهي ورتبت في عدة أماكن من القلعة إلى الميدان‏.‏

ثم ركبت أم السلطان في جمعها وأقبل الناس من كل جهة‏.‏

فبلغ كراء كل طبقة مائة درهم وكل بيت كبير لنساء الأمراء مائتي درهم وكل حانوت خمسين درهمًا وكل موضع إنسان بدرهمين‏.‏

فكان يومًا لم يعهد في ركوب الميدان مثله‏.‏

ثم في يوم الخميس خامس عشره قبض السلطان الملك المظفر هذا على أعظم أمرائه ومدبر مملكته الأمير شجاع الدين غرلو وقتله وسبب ذلك أمور‏:‏ منها شدة كراهية الأمراء له لسوء سيرته فإنه كان يخلو بالسلطان ويشير عليه بما يشتهيه فما كان السلطان يخالفه في شيء وكان عمله أمير سلاح فخرج عن الحد في التعاظم وجسر السلطان على قتل الأمراء وقام في حق النائب أرقطاي يريد القبض عليه وقتله واستمال المماليك الناصرية والصالحية والمظفرية بكمالهم وأخذ يقرر مع السلطان أن يفوض إليه أمور المملكة بأسرها ليقوم عنه بتدبيرها ثم لم يكفه ذلك حتى أخذ يغري السلطان بألجيبغا وطنيرق وكانا أخص الناس بالسلطان ولا زال يمعن في ذلك حتى تغير السلطان عليهما وبلغ ذلك ألجيبغا وتناقلته المماليك فتعصبوا عليه وأرسلوا إلى الأمراء الكبار حتى حدثوا السلطان في أمره وخوفوه عاقبته‏.‏

فلم يعبأ السلطان بقولهم فتنكروا بأجمعهم على السلطان بسبب غرلو إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته فآستشار النائب في أمر غرلو المذكور فلم يشر عليه في أمره بشيء وقال للسلطان‏:‏ ‏"‏ لعل الرجل قد كثرت حساده على تقريب السلطان له والمصلحة التثبت في أمره ‏"‏‏.‏

وكان أرقطاي النائب عاقلًا سيوسًا يخشى من معارضته غرض السلطان فيه‏.‏

فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية في التدبير على غرلو وتخويف السلطان منه ومن سوء عاقبته حتى أثر قولهم في نفس السلطان‏.‏

وأقاموا الأمير أحمد شاد الشرابخاناه وكان مزاحًا للوقيعة فيه فأخذ أحمد شاد الشرابخاناه في خلوته مع السلطان يذكر كراهية الأمراء لغرلو وموافقة المماليك له وأنه يريد أن يدبر المملكة ويكون نائب السلطنة ليتوثب بذلك على المملكة ويصير سلطانًا ويخرج له قوله هذا في صورة السخرية والضحك‏.‏

وصار أحمد المذكور يبالغ في ذلك على عدة فنون من الهزل إلى أن قال السلطان‏:‏ ‏"‏ أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور ‏"‏ فمضى أحمد شاد الشربخاناه إلى النائب وعرفه بما وقع في السر وأنه جسر السلطان على الوقيعة في غرلو‏.‏

فبعث السلطان وراء النائب أرقطاي وآستشاره في أمر غرلو ثانيًا فأثنى عليه النائب وشكره فعرف السلطان كثرة وقيعة الخاصكية فيه وأنه قصد أن يعمله أمير آخور فقال النائب‏:‏ ‏"‏ غرلو رجل شجاع جسور لا يليق أن يعمل أمير آخور ‏"‏‏.‏

فكأنه أيقظ السلطان من رقدته بحسن عبارة وألطف إشارة فأخذ السلطان في الكلام معه بعد ذلك فيما يوليه‏!‏ فأشار عليه النائب بتوليته نيابة غزة فقبل السلطان ذلك وقام عنه النائب‏.‏

فأصبح السلطان بكرة يوم الجمعة وبعث الأمير طنيرق إلى النائب أن يخرج غرلو إلى نيابة غزة‏.‏

فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة وجلس على باب القلة فبعث النائب يطلبه فقال‏:‏ ‏"‏ مالي عند النائب شغل وما لأحد معي حديث غير أستاذي ‏"‏‏.‏

فأرسل النائب يعرف السلطان جواب غرلو فأمر السلطان مغلطاي أمير شكار وجماعة من الأمراء أن يعرفوا غرلو عن السلطان أن يتوجه إلى غزة وإن امتنع يمسكوه فلما صار غرلو بداخل القصر لم يحدثوه بشيء وقبضوا عليه وقيدوه وسلموه لألجيبغا فأدخله إلى بيته بالأشرفية‏.‏

فلما خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو وهو في الصلاة‏.‏

وأخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه فنقلوا عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏ أنا ما أروح مكانا ‏"‏ وأراد سل سيفه وضرب الأمراء به فتكاثروا عليه فما سلم نفسه حتى قتل‏.‏

فعز قتله على السلطان وحقد عليهم لأجل قتله ولم يظهر لهم ذلك‏.‏

ورسم بإيقاع الحوطة على ثم أخرج بغرلو المذكور ودفن بباب القرافة فأصبح وقد خرجت يده من القبر فأتاه الناس أفواجًا ليروه ونبشوا عليه وجروه بحبل في رجله إلى تحت القلعة وأتوا بنار ليحرقوه وصار لهم ضجيج عظيم‏.‏

فبعث السلطان عدة من الأوجاقية قبضوا على كثير من العامة فضربهم الوالي بالمقارع وأخذ منهم غرلو المذكور ودفنه‏.‏

ولم يظهر لغرلو المذكور كثير مال‏.‏

قلت‏:‏ ومن الناس من يسميه ‏"‏ أغزلو ‏"‏ بألف مهموزة وبعدها غين معجمة مكسورة وزاي ساكنة ولام مضمومة وواو ساكنة‏.‏

ومعنى أغزلو باللغة التركية‏:‏ له فم وقد ذكرناه نحن أيضًا في المنهل الصافي في حرف الهمزة غير أن جماعة كثيرة ذكروه ‏"‏ غرلو ‏"‏ فآقتدينا بهم هنا وخالفناهم هناك وكلاهما آسم باللغة التركية‏.‏

انتهى‏.‏

وكان غرلو هذا أصله من مماليك الحاج بهادر العزي وخدم بعده عند بكتمر الساقي وصار أمير آخوره ثم خدم بعد بكتمر عند بشتك وصار أمير آخوره أيضا ثم ولي بعد ذلك ناحية أشمون ثم ولي نيابة الشوبك ثم ولي القاهرة وأظهر العفة والأمانة وحسنت سيرته ثم تقرب عند الملك الكامل شعبان وفتح له باب الأخذ في الولايات والإقطاعات وعمل لذلك ديوانًا قائم الذات سمي ديوان البدل‏.‏

فلما تولى الصاحب تقي الدين بن مراحل الوزرشاححه في الجلوس والعلامة فترجح الصاحب تقي الدين وغزل غرلو هذا عن شد الدواوين ودام على ذلك إلى أن كانت نوبة السلطان الملك المظفر كان غرلو هذا ممن قام معه لما كان في نفسه من الكامل من عزله عن شد الدواوين وضرب في الوقعة أرغون العلائي بالسيف في وجهه وتقرب من يوم ذاك إلى الملك المظفر حتى كان من أمره ما حكيناه‏.‏

ثم خرج السلطان الملك المظفر بعد قتله إلى سرياقوس على العادة وأقام بها أيامًا‏.‏

ثم عاد وخلع على الأمير منجك اليوسفي السلاح دار باستقراره حاجبًا بدمشق عوضًا عن أمير علي بن طغربل‏.‏

وأنعم السلطان على اثني عشر من المماليك السلطانية بإمريات ما بين طبلخاناه وعشرة وأنعم بتقدمة الأمير منجك السلاح دار على بعض خواصه‏.‏